آخر المقالات

Post Top Ad

Your Ad Spot

الاثنين، 24 يونيو 2019

كتاب "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان" لعبد الوهاب المسيري :

كتاب "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان" لعبد الوهاب المسيري :
كتاب الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان للدكتور عبد الوهاب المسيري هو دراسة نقدية للفلسفة المادية ونموذجها المعرفي الكموني القائم على النفعية والعلمانية التي تفصل الدولة وسياساتها عن أي نموذج أخلاقي قيمي متجاوز للمادة.
ينقسم الكتاب على ثمانية فصول :
·         عنون الفصل الأول :  "الإنسان والمادة"، ويبدأ الكاتب فيه بوصف الظاهرة الإنسانية وسماتها الأساسية، حيث يقول بأن الإنسان ظاهرة متعددة الأبعاد لا يمكن اختزاله في إحدى وظائفه البيولوجية، فهو جزء من الطبيعة في جانبه المادي، لكنه ينفصل عنها ويتجاوزها في جانبه الروحي والثقافي، وبعده التاريخي والحضاري. ثم يباشر في تعريف الفلسفة المادية، فيصفها بأنها فلسفة تؤمن بوحدة الطبيعة، وبقانونها الثابت، الحتمي، الآلي، الذي يحرك كل شيء بشكل تلقائي في غياب تام لأية غايات أو خصوصيات أو غيبيات تتجاوز الطبيعة، وبالتالي فهي فلسفة تجزم بأسبقية المادة على الإنسان. أيضا، يُرجع الكاتب سر جاذبية هذه الفلسفة على المستوى المعرفي في كون التفسير المادي للظواهر هو الأسهل والأسرع والأكثر مباشرة، وعلى المستوى النفسي في كونها تنكر الهوية الفردية المستقلة والمسؤولية الخلقية والاختيار الحر، ويُرجع مكامن قصورها إلى كونها ليست أيديولوجية واعية، بل فلسفة محدودة بالعلم التجريبي وبالرؤية النيوتنية المحكمة بالحتمية الميكانيكية، في معارضة للنظريات العلمية الحديثة التي تنكر حتمية العلم وأزلية المادة. كما يميز الكاتب بين مادية قديمة تستند إلى العقلانية المادية، ومادية جديدة تضع المادة المتغيرة المتحركة المفتقرة إلى المعنى في مركز الكون، ويميز بين العقلانية المادية التي تؤمن بأن العقل قادر على أدراك الحقيقة بمفرده، واللاعقلانية المادية ذات النزعة التجريبية المحضة التي لا تؤمن إلا بالمادة وحركتها وعالم الحواس.
·         عنون الفصل الثاني : "إشكالية الطبيعي والإنساني"، حيث يوضح الكاتب الفروق الأساسية بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية، التي تتمثل في محدودية العناصر المكونة للمادة مقابل لا محدودية العناصر المكونة للإنسان، وسهولة رصد أسباب الظاهرة الطبيعية مقابل صعوبتها في الظاهرة الإنسانية، وكون الظاهرة الطبيعية متكررة، لا إرادية، غير واعية، لا ذاكرة لها، يدل مظهرها على مخبرها، وتفتقر إلى المكون الثقافي، مقابل الظاهرة الإنسانية التي تختلف من حالة إلى أخرى، وتتسم بالإرادة والوعي والذاكرة، ويختلف ظاهرها عن باطنها، وتحمل ثقافة وتراثا، وغيرها من الاختلافات التي تجعل من الإجحاف معاملة الإنسان معاملة المادة الطبيعية. ويشير الكاتب إلى أن إشكالية الإنساني والطبيعي تظهر أيضا في الأدبيات العربية كما في الغربية، ثم ينتقل إلى تفسير كيف فشل النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان، بسبب تحدي العقل الإنساني لنموذج التفسير التجريبي، وعجز المادة عن تفسير الحس الخلقي والديني والجمالي للإنسان، مثل عجزها عن تفسير إصراره وبحثه الدائم عن المعنى. وفي نهاية هذا الفصل يذهب الكاتب إلى القول بأن هذه الفلسفة تشكل هجوما على الطبيعة الإنسانية، ويدعم أطروحته هذه من خلال خمسة أمثلة : أولا وحدة العلوم؛ المفهوم الذي يؤسس علوم طبيعية تستبعد الجوهر الإنساني ومفهوم الطبيعة الإنسانية. ثانيا نظرية الحقوق الجديدة؛ التي هي في جوهرها لا تدعو إلى المساواة بين الناس، بل إلى تسوية الإنسان مع الطبيعة المادية. ثالثا حركة التمركز حول الأنثى؛ التي تهدف إلى تفكيك مقولة المرأة لتصبح كائنا طبيعيا تتم تسويتها بالرجل في جميع أدواره واختزالهما معا لإنكار ثنائية الذكر والأنثى. رابعا مشكلة القيمة في المجتمعات العلمانية الحديثة؛ التي تبنى على أساس الأغلبية العددية والعلم الطبيعي في غياب لأية مركزية للإنسان وقيمه المتجاوزة للطبيعة. وخامسا الثقافة الشعبية الهوليودية التي تروج لشخصيات جنسية تنزع إلى الفردية تذكر بإنسان داروين ونيتشه وفرويد.
·         عنون الفصل الثالث : "العقل والمادة"، ويتناول مفهوم العقل، فيعرض الكاتب كيف حُدد هذا المفهوم في مختلف الفلسفات، ليبين أنه في حد ذاته مفهوم غائم عائم، وبالتالي فالمهم هو النموذج الكامن وراء العقل. ومن هذا المنطق يحصر الكاتب أهم سمات العقل المادي في كونه محكوم داخل حدود التجربة المادية، وهو جزء منها وتسري عليه قوانينها، وهو محايد، تكنوقراطي، محافظ، كمي، معاد للتاريخ، سطحي، ولا يصدر سوى التشابه والعمومية. ثم يميز الكاتب بين العقل الأداتي الذي يلتزم بالإجراءات دون هدف أو غاية، فيكون عاجزا عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، وعن تجاوز الحاضر للوصول إلى الماضي واستشراف المستقبل، وبين العقل النقدي الذي ينظر إلى الصورة الأكبر، ويدرك العالم، ويتجاوز الذات الضيقة والإجراءات والأمر الواقع، لينظر في جذور الأشياء وغاياتها.
·         عنون الفصل الرابع : "المادية في التاريخ"، وهو يبرز بعض التجليات التاريخية للفلسفة المادية، فيبدأ بتجلياتها في أفكار الداروينية الاجتماعية، التي تدعي أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة هي ذاتها التي تسري على الظواهر الإنسانية والتاريخية والاجتماعية، بما في ذلك قانون البقاء للأقوى، وتوظف هذه الرؤية في تبرير الصراع الدائم بين المجتمعات، والتفاوت بين الطبقات داخل المجتمع الواحد. ثم رصد تجلياتها في الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الشاملة؛ الرؤية  التي لا تفصل فقط الدين عن الدولة، بل تفصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية المتجاوزة لقوانين المادة عن الإنسان والطبيعة، وما كان لذلك من تعويض لمركزية الإنسان عامة في الكون بمركزية الإنسان الأبيض، الذي تم التعبير عنها من خلال الحركة الإمبريالية، التي حولت باقي شعوب العالم إلى مادة استعمالية، كما هيمنت الدولة المطلقة على الإنسان الغربي نفسه بأفكارها وماديتها لتجعله يتبنى نفس الفلسفة ويدعمها في تطبيقها. وأخيرا يصف الكاتب كيف تطورت هذه الفلسفة لتحصر الإنسان في ثلاثة أدوار، هي الإنتاج في المصنع، والاستهلاك في السوق، واللذة في الملهى الليلي، وكيف استمدت أفكارها من الفلاسفة الماركسيون آخرون مثل هوبز واسبينوزا ونيتشه، ثم كيف تبدى كل هذا في ثلاث لحظات نماذجية علمانية شاملة، هي اللحظة السنغافورية التي تمثل الإنسان الاقتصادي، واللحظة التايلاندية التي تمثل الإنسان الجسدي، واللحظة النازية التي تمثل الإنسان كمادة محضة.
·         عنون الفصل الخامس : "الترشيد والقفص الحديدي"، وهو يتناول الترشيد بوصفه جعل الشيء مطابقا للمبادئ العقلية المادية، والذي يهدف إلى إعادة صياغة المجتمع عن طريق تفكيكه واستعباد سائر العناصر الإنسانية المركبة التي تستعصي على القياس، وإعادة تركيبه وفق المعايير العلمية المادية، فيغدو المجتمع نسقا آليا نمطيا خاضعا للحسابات الكمية في مختلف مجالات الحياة، وذلك عن طريق توحيد السوق والبيئة الاجتماعية وتنميطها، ونشر رموز الدولة القومية المطلقة، مما اقتضى ضرب الأسرة والكنيسة، وتهميش  الدين، والقضاء على الجماعات والمؤسسات الوسيطة. كل هذا يؤدي إلى تنميط الحياة ووهم التحكم فيها، فيصبح الإنسان مجرد وسيلة بعد أن كان الغاية، ويتحول المجتمع بأسره إلى حالة المصنع، وإلى قفص حديدي يهدد الحرية الفردية.
·         عنون الفصل السادس : "نهاية التاريخ"، التي تشير إلى اللحظة الذي سيصبح فيها التاريخ بكل تركيبه وأحداثه سكونيا، خاليا من التدافع والصراعات والخصوصيات، إذ أن كل شيء سيرد إلى الطبيعة، ويسيطر الإنسان على بيئته ونفسه، ويتم تأسيس اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية. ويحلل الكاتب هذه النهاية من خلال كل من منظوري فوكوياما وهنتنغتون، حيث يرى فوكوياما أننا قد وصلنا إلى تلك النقطة، فيعلن نهاية الآخر وانتصار الذات، ونهاية التاريخ وبداية الفردوس الأرضي، أما هنتنجتون فيرى أن الوصول ليس بهذه البساطة، وبيدي تخوفه من الدول التي لا تنضوي تحت المنظومة الغربية. كما يتحدث الكاتب في هذا الفصل عن رؤية ما بعد الحداثة التي لا تبشر بالفردوس الأرضي، لكنها تعلن أيضا نهاية التاريخ بنهاية الإنسان ككائن مركب اجتماعي أخلاقي ليحل محله إنسان ذو بعد مادي واحد لا ذاكرة له ولا تاريخ، وعن النظام العالمي الجديد حيث يلجأ الغرب إلى إغراء وإغواء بلدان العالم الثالث ونخبها المحلية الحاكمة بدل القمع والقسر، وذلك لإدراكه عجزه عن فرض سياسته بالقوة واستحالة المواجهة العسكرية والثقافية والاقتصادية، وكذا رصد نقاط الضعف المادية في عوامل التفكك الظاهرة في دول العالم الثالث.
·         عنون الفصل السابع : "العنصرية الغربية في عصر ما بعد الحداثة"، حيث يميز الكاتب بين نوعين من العنصرية الغربية، هما عنصرية التفاوت في عصر التحديث، وعنصرية التسوية في عصر ما بعد الحداثة. أما عنصرية التفاوت فهي الإيمان بوجود تمايز ثقافي بين الأجناس، فتم توحيد مفهومي الحضارة والعرق، واعتبار الحضارات غير الغربية أدنى من الحضارة الغربية لأسباب وراثية، وهذه النظرية مرتبطة مباشرة بتصاعد معدلات التوسع الإمبريالي لأنها بررت احتلال واستعباد الشعوب الأخرى. وأما عنصرية التسوية فهي عنصرية تساوي بين البشر والكائنات الأخرى، وهي موجهة ضد الجوهر الإنساني نفسه، فتصبح أي جماعة بشرية تشكل أقلية، وتلغى مفاهيم الإنسانية المشتركة، وهذه العنصرية بدورها تتسق مع النظام العالمي الجديد ومع الاستهلاكية العالمية، ومع العلمنة البنيوية وسياسة تفكيك الإنسان.
·         عنون الفصل الثامن : "المادية والإبادة"، وهو يبرز كيف أن إمكانية الإبادة كامنة في الثقافة الغربية الحديثة، وكيف أن الرؤية المادية هي رؤية إبادية في جوهرها، ويبرهن على أطروحته من خلال جرد عدة أمثلة لإفقاد الإنسان مركزيته في الكون، وإسقاط السمات الشخصية عنه خاصة خلال أحداث الحرب العالمية الثانية، حيث تحولت هذه الإمكانية إلى حقيقة تاريخية، وما ترتب عنها من مجازر أمريكية في اليابان، ومحارق نازية ضد جميع العناصر غير الآرية أو غير النافعة من يهود وسلاف وعجزة ومعوقين ورواد الإباحية والأطفال المشوهين خلقيا، وحتى الجنود النازيين ممن أصيبوا إصابات ستكلف الدولة الكثير لعلاجها، كما تظهر هذه الفلسفة المادية في عمليات التهجير الوحشية التي حصلت في حق الأفارقة لاستغلالهم كعبيد يخدمون الإنسان الأبيض في العالم الجديد، مفي حق المغاربة لاستغلالهم كجنود يحاربون لأجل أطماع الإنسان الأبيض ذاته.
في رأيي الشخصي، فإن الكاتب قد استطاع الإحاطة بعدة جوانب من الفلسفة المادة، ونجح في تبيين أفكارها للقراء، كما استدل على أطروحته بطريقة مقنعة، إلا أنه لم يرفق هذه الأطروحة بأي جانب عملي تطبيقي، حيث أن القارئ بعد استيعابه لأفكار الكتاب، قد يجد صعوبة في إسقاط هذا الوعي على شكل سلوكيات في مختلف جوانب حياته الواقعية المعاصرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot